فصل: سئل: عن إمام جماعة بمسجد مذهبه حنفي ذكر لجماعته أن عنده كتابًا فيه‏؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وَسُئِل ـ رحمه الله ـ عن المسافر في رمضان، ومن يصوم، ينكر عليه، وينسب إلى الجهل‏.‏ ويقال له‏:‏ الفطر أفضل، وما هو مسافة القصر‏؟‏ وهل إذا أنشأ السفر من يومه يفطر‏؟‏ وهل يفطر السفار من المكارية والتجار والجمال والملاح وراكب البحر‏؟‏ وما الفرق بين سفر الطاعة وسفر المعصية‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، الفطر للمسافر جائز باتفاق المسلمين، سواء كان سفر حج، أو جهاد، أو تجارة، أو نحو ذلك من الأسفار التي لا يكرهها الله ورسوله‏.‏

وتنازعوا في سفر المعصية ـ كالذي يسافر ليقطع الطريق ونحو ذلك ـ على قولين مشهورين، كما تنازعوا في قصر الصلاة‏.‏

فأما السفر الذي تقصر فيه الصلاة، فإنه يجوز فيه الفطر مع القضاء /باتفاق الأئمة، ويجوز الفطر للمسافر باتفاق الأمة، سواء كان قادرًا على الصيام، أو عاجزًا، وسواء شق عليه الصوم، أو لم يشق، بحيث لو كان مسافرًا في الظل والماء ومعه من يخدمه جاز له الفطر والقصر‏.‏

ومن قال‏:‏ إن الفطر لا يجوز إلا لمن عجز عن الصيام، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكذلك من أنكر على المفطر، فإنه يستتاب من ذلك‏.‏

ومن قال‏:‏ إن المفطر عليه إثم، فإنه يستتاب من ذلك، فإن هذه الأحوال خلاف كتاب الله وخلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلاف إجماع الأمة‏.‏وهكذا السنة للمسافر أنه يصلي الرباعية ركعتين، والقصر أفضل له من التربيع، عند الأئمة الأربعة، كمذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد، والشافعي في أصح قوليه‏.‏

ولم تتنازع الأمـة في جواز الفطر للمسافر، بل تنازعوا في جواز الصيام للمسافر، فذهب طائفـة من السلف والخلف إلى أن الصائم في /السفر كالمفطر في الحضر، وأنه إذا صام لم يجزه، بل عليه أن يقضي، ويروي هذا عن عبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة وغيرهما مـن السلف، وهـو مـذهب أهل الظاهر‏.‏ وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ ليس مـن البر الصـوم في السـفر‏)‏‏.‏ لكن مـذهب الأئمة الأربعة أنه يجوز للمسافر أن يصوم وأن يفطر، كما في الصحيحين عن أنس قال‏:‏ كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا الصـائـم، ومــنا المفطر، فــلا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم‏.‏ وقــد قال الله ـ تعالى ـ‏:‏ ‏{‏وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏البقـرة‏:‏ 185‏]‏‏.‏ وفي المسـند عـن النبي صلى الله عليه وسلم أنـه قـال‏:‏ ‏(‏إن الله يحب أن يؤَخـذ برخصـه، كما يـكره أن تُؤتَي معصيته‏)‏‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ أن رجلاً قـال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني رجل أكثر الصوم، أفأصوم في السفر‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏ إن أفطرت فحسن، وأن صمت فلا بأس‏)‏‏.‏ وفي حديث آخر‏:‏ ‏(‏خياركم الذين في السفر يقصرون ويفطرون‏)‏‏.‏

وأما مقدار السفر الذي يقصر فيه ويفطر، فمذهب مالك والشافعي وأحمد‏:‏ أنه مسيرة يومين قاصدين بسير الإبل والأقدام، وهو ستة عشر فرسخًا، كما بين مكة وعُسْفَان، ومكة وجُدَّة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ مسيرة/ ثلاثة أيام‏.‏ وقال طائفة من السلف والخلف‏:‏ بل يقصر ويفطر في أقل من يومين، وهذا قول قوي، فإنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعرفة، ومزدلفة، ومِني، يقصر الصلاة، وخلفه أهل مكة وغيرهم يصلون بصلاته، لم يأمر أحدًا منهم بإتمـام الصلاة‏.‏

وإذا سافـر في أثناء يوم، فهل يجوز له الفطر‏؟‏ على قولين مشهورين للعلماء، هما روايتان عن أحمد‏.‏ أظهرهما‏:‏ أنه يجوز ذلك، كما ثبت في السنن‏:‏ أن من الصحابة من كان يفطر إذا خرج من يومه، ويذكر أن ذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنـه نـوي الصـوم في السـفر، ثم إنـه دعا بماء فأفطر، والناس ينظرون إليه‏.‏

وأما اليوم الثاني، فيفطر فيه بلا ريب، وإن كان مقدار سفره يومين في مذهب جمهور الأئمة والأمة‏.‏

وأما إذا قدم المسافر في أثناء يوم، ففي وجوب الإمساك عليه نزاع مشهور بين العلماء، لكن عليه القضاء سواء أمسك أو لم يمسك‏.‏

/ويفطر من عادته السفر إذا كان له بلد يأوي إليه، كالتاجر الجَلاَّب الذي يجلب الطعام، وغيره من السلع، وكالمكاري الذي يكْرِي دوابه من الجلاب وغيرهم، وكالبريد الذي يسافر في مصالح المسلمين ونحوهم، وكذلك الملاح الذي له مكان في البر يسكنه‏.‏

فأما من كان معه في السفينة امرأته وجميع مصالحه ولا يزال مسافرًا، فهذا لا يقصر ولا يفطر‏.‏

وأهل البادية ـ كأعراب العرب، والأكراد، والترك، وغيرهم ـ الذين يشْتون في مكان، وَيصِيفون في مكان، إذا كانوا في حال ظعنهم من المشتي إلى المصيف، ومن المصيف إلى المشتي، فإنهم يقصرون، وأما إذا نزلوا بمشتاهم ومصيفهم، لم يفطروا ولم يقصروا، وإن كانوا يتتبعون المراعي‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وَسُئِل ـ رحمه الله ـ عمن يكون مسافرًا في رمضان، ولم يصبه جوع ولا عطش ولا تعب، فما الأفضل له الصيام أم الإفطار‏؟‏

/فأجاب‏:‏

أما المسافر فيفطر باتفاق المسلمين، وإن لم يكن عليه مشقة، والفطر له أفضل، وإن صام جاز عند أكثر العلماء‏.‏

ومنهم من يقول‏:‏ لا يجزئه‏.‏

 وَسُئِل عن إمام جماعة بمسجد مذهبه حنفي ذكر لجماعته أن عنده كتابًا فيه‏:‏ أن الصيام في شهر رمضان إذا لم ينو بالصيام قبل عشاء الآخرة، أو بعدها أو وقت السحور، وإلا فما له في صيامه أجر، فهل هذا صحيح أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، على كل مسلم يعتقد أن الصوم واجب عليه، وهو يريد أن يصوم شهر رمضان النية، فإذا كان يعلم أن غدًا من رمضان فلابد أن ينوي الصوم، فإن النية محلها القلب، وكل من علم ما يريد فلابد أن ينويه‏.‏

والتكلم بالنية ليس واجبًا بإجماع المسلمين، فعامة المسلمين إنما يصومون بالنية، وصومهم صحيح بلا نزاع بين العلماء‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وَسُئِل شيخ الإسلام ما يقول سيدنا في صائم رمضان‏:‏ هل يفتقر كل يوم إلى نية أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

كل من علم أن غدًا من رمضان، وهو يريد صومه فقد نوي صومه، سواء تلفظ بالنية أو لم يتلفظ‏.‏ وهذا فعل عامة المسلمين، كلهم ينوي بالصيام‏.‏

 وَسُئِل عن غروب الشمس‏:‏ هل يجوز للصائم أن يفطر بمجرد غروبها‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا غاب جميع القرص أفطر الصائم، ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق‏.‏

/وإذا غاب جميع القرص ظهر السواد من المشرق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم‏)‏‏.‏

وَسُئِل عما إذا أكل بعد أذان الصبح في رمضان‏:‏ ماذا يكون‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، أما إذا كان المؤذن يؤذن قبل طلوع الفجر ـ كما كان بلال يؤذن قبل طلوع الفجر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكما يؤذن المؤذنون في دمشق وغيرها قبل طلوع الفجر ـ فلا بأس بالأكل والشرب بعد ذلك بزمن يسير‏.‏

وإن شك‏:‏ هل طلع الفجر أو لم يطلع‏؟‏ فله أن يأكل ويشرب حتي يتبين الطلوع، ولو علم بعد ذلك أنه أكل بعد طلوع الفجر، ففي وجوب القضاء نزاع‏.‏

والأظهر‏:‏أنه لا قضاء عليه، وهو الثابت عن عمر،وقال به طائفة /من السلف والخلف، والقضاء هو المشهور في مذهب الفقهاء الأربعة‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وَسُئِل عن رجل كلما أراد أن يصوم أغمي عليه، ويزبد ويخبط، فيبقي أيامًا لا يفيق، حتي يتهم أنه جنون، ولم يتحقق ذلك منه‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، إن كان الصوم يوجب له مثل هذا المرض فإنه يفطر ويقضي، فإن كان هذا يصيبه في أي وقت صام، كان عاجزًا عن الصيام، فيطعم عن كل يوم مسكينًا‏.‏ والله أعلم‏.‏

وَسُئِل ـ رحمه الله ـ عن امرأة حامل رأت شبه الحيض، والدم مواظبها، وذكر القوابل‏:‏أن المرأة تفطر لأجل منفعة الجنين، ولم يكن بالمرأة ألم، فهل /يجوز لها الفطر أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

إن كانت الحامل تخاف على جنينها، فإنها تفطر وتقضي عن كل يوم يومًا، وتطعم عن كل يوم مسكينًا، رطلاً من خبز بأدمه‏.‏ والله أعلم‏.‏

/وَقَال شَيخ الإسْلامَ أحْمَد بن تيمية ـ رحمه الله‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومـن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا‏.‏

 فَصْـــل

فيما يفطر الصَّائم ومَا لا يفطره

وهذا نوعان‏:‏ منه ما يفطر بالنص والإجماع، وهو الأكل والشرب، والجماع، قال تعالى‏:‏‏{‏فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏، فأذن في المباشرة، فعقل من ذلك‏:‏ أن المراد الصيام من المباشرة والأكل والشرب،ولما قال أولاً‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عليكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 183‏]‏، كان معقولاً عندهم‏:‏ أن الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع، ولفظ ‏[‏الصيام‏]‏ كانوا يعرفونه قبل الإسلام ويستعملونه، كما في الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ‏:‏ أن يوم عاشوراء كان يومًا تصومه قريش في الجاهلية‏.‏

وقد ثبت عن غير واحد‏:‏ أنه قبل أن يفرض شهر رمضان أمر بصوم يوم عاشوراء وأرسل مناديا ينادي بصومه، فعلم أن مسمي هذا الاسم كان معروفًا عندهم‏.‏

وكذلك ثبت بالسنة واتفاق المسلمين‏:‏ أن دم الحيض ينافي الصوم، فلا تصوم الحائض، لكن تقضي الصيام‏.‏

وثبت بالسنة ـ أيضًا ـ من حديث لَقِيط بن صَبْرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏(‏وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا‏)‏، فدل على أن إنزال الماء من الأنف يفطر الصائم، وهو قول جماهير العلماء‏.‏

/وفي السنن حديثان‏:‏ أحدهما‏:‏ حديث هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من ذَرَعَهُ قَيءٌ وهو صائم فليس عليه قَضَاءٌ، وإن استقاء فليقض‏)‏، وهذا الحديث لم يثبت عند طائفة من أهل العلم، بل قالوا‏:‏ هو من قول أبي هريرة، قال أبو داود‏:‏ سمعت أحمد بن حنبل قال‏:‏ ليس من ذا شيء‏.‏ قال الخطابي‏:‏ يريد أن الحديث غير محفوظ‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ سألت محمد بن إسماعيل البخاري عنه، فلم يعرفه إلاعن عيسي بن يونس، قال‏:‏ وما أراه محفوظًا‏.‏ قال‏:‏ وروي يحيي بن كثير، عن عمر بن الحكم‏:‏ أن أبا هريرة كان لا يري القيء يفطر الصائم‏.‏

قال الخطابي‏:‏ وذكر أبو داود أن حفص بن غياث رواه عن هشام، كما رواه عيسي بن يونس، قال‏:‏ ولا أعلم خلافًا بين أهل العلم في أن من ذرعه القيء فإنه لا قضاء عليه، ولا في أن من استقاء عامدًا فعليه القضاء، ولكن اختلفوا في الكفارة، فقال عامة أهل العلم‏:‏ ليس عليه غير القضاء‏.‏ وقال عطاء‏:‏ عليه القضاء والكفارة، وحكي عن الأوزاعي وهو قول أبي ثور‏.‏

/قلت‏:‏ وهو مقتضي إحدي الروايتين عن أحمد في إيجابه الكفارة على المحتجم، فإنه إذا أوجبها على المحتجم فعلى المستقيء أولى، لكن ظاهر مذهبه‏:‏ أن الكفارة لا تجب بغير الجماع كقول الشافعي‏.‏

والذين لم يثبتوا هذا الحديث لم يبلغهم من وجه يعتمدونه، وقد أشاروا إلى عليه، وهو انفراد عيسي بن يونس، وقد ثبت أنه لم ينفرد به، بل وافقه عليه حفص بن غياث، والحديث الأخير يشهد له، وهو ما رواه أحمد وأهل السنن، كالترمذي، عن أبي الدرداء‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر، فذكرت ذلك لثوبان‏.‏ فقال‏:‏ صدق، أنا صببت له وضوءًا، لكن لفظ أحمد‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ‏.‏ رواه أحمد عن حسين المعلم‏.‏

قال الأثرم‏:‏ قلت لأحمد‏:‏ قد اضطربوا في هذا الحديث، فقال‏:‏ حسين المعلم يجوده‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حديث حسين أرجح شيء في هذا الباب، وهذا قد استدل به على وجوب الوضوء من القيء، ولا يدل على ذلك، فإنه إذا أراد بالوضوء الوضوء الشرعي، فليس فيه إلا أنه توضأ، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، بل يدل على أن الوضوء من ذلك مشروع، فإذا قيل‏:‏ إنه مستحب كان فيه عمل بالحديث‏.‏

/وكذلك ما روي عن بعض الصحابة من الوضوء من الدم الخارج ليس في شيء منه دليل على الوجوب، بل يدل على الاستحباب، وليس في الأدلة الشرعية ما يدل على وجوب ذلك، كما قد بسط في موضعه، بل قد روي الدارقطني وغيره، عن حميد، عن أنس قال‏:‏ احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه، ورواه ابن الجوزي في ‏[‏حجة المخالف‏]‏ ولم يضعفه، وعادته الجرح بما يمكن‏.‏

وأما الحديث الذي يروي‏:‏ ‏(‏ثلاث لا تفطر‏:‏ القيء، والحجامة، والاحتلام‏)‏، وفي لفظ‏:‏ ‏(‏لا يفطرن لا من قاء ولا من احتلم ولا من احتجم‏)‏، فهذا إسناده الثابت‏:‏ ما رواه الثوري وغيره، عن زيد بن أسلم، عن رجل من أصحابه، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ هكذا رواه أبـو داود، وهذا الرجـل لا يعـرف‏.‏ وقد رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن عبد الرحمن ضعيف عند أهل العلم بالرجال‏.‏

قلت‏:‏ روايته عن زيد من وجهين‏:‏ مرفوعًا لا يخالف روايته /المرسلة بل يقويها، والحديث ثابت عن زيد بن أسلم؛ لكن هذا فيه‏:‏ ‏(‏إذا ذرعه القيء‏)‏

وأما حديث الحجامة، فإما أن يكون منسوخًا، وإما أن يكون ناسخًا؛ لحديث ابن عباس‏:‏ أنه احتجم وهو محرم صائم ـ أيضًا، ولعل فيه القيء إن كان متناولاً للاستقاءة هو ـ أيضًا ـ منسوخ‏.‏ وهذا يؤيد أن النهي عن الحجامة هو المتأخر، فإنه إذا تعارض نصان ناقل وباق على الاستصحاب، فالناقل هو الراجح في أنه الناسخ، ونسخ أحدهما يقوي نسخ قرينه، ورواه غير واحد عن زيد بن أسلم مرسلاً، وقال يحيي بن معين‏:‏ حديث زيد ابن أسلم ليس بشيء، ولو قدر صحته؛ لكان المراد من ذرعه القيء، فإنه قرنه بالاحتلام، ومن احتلم بغير اخيتاره ـ كالنائم ـ لم يفطر باتفاق الناس‏.‏

وأما من استمني فأنزل، فإنه يفطر، ولفظ الاحتلام إنما يطلق على من احتلم في منامه‏.‏

وقد ظن طائفة أن القياس ألا يفطر شيء من الخارج، وأن المستقيء إنما أفطر؛ لأنه مظنة رجوع بعض الطعام، وقالوا‏:‏ إن فطر الحائض على خلاف القياس‏.‏ وقد بسطنا في الأصول‏:‏ أنه ليس في الشريعة /شيء على خلاف القياس الصحيح‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد ذكرتم أن من أفطر عامدًا بغير عذر كان فطره من الكبائر، وكذلك من فوت صلاة النهار إلى الليل عامدًا من غير عذر كان تفويته لها من الكبائر،وأنها ما بقيت تقبل منه على أظهر قولي العلماء، كمن فوت الجمعة، ورمي الجمار وغير ذلك من العبادات المؤقتة، وهذا قد أمره بالقضاء‏.‏

وقد روي في حديث المجامع في رمضان‏:‏ أنه أمره بالقضاء، قيل‏:‏ هذا إنما أمره بالقضاء؛ لأن الإنسان إنما يتقيأ لعذر كالمريض يتداوي بالقيء، أو يتقيأ لأنه أكل ما فيه شبهة كما تقيأ أبو بكر من كسب المتكهن‏.‏

وإذا كان المتقيء معذورًا كان ما فعله جائزًا وصار من جملة المرضي الذين يقضون، ولم يكن من أهل الكبائر الذين أفطروا بغير عذر، وأما أمره للمجامع بالقضاء فضعيف، ضعفه غير واحد من الحفاظ، وقد ثبت هذا الحديث مـن غـير وجـه في الصحيحين من حديث أبي هريرة ومن حديث عائشة،ولم يذكر أحد أمره بالقضاء، ولو كان أمره بذلك لما أهمله هؤلاء كلهم وهو حكم شرعي يجب بيانه، ولما لم /يأمره به دل على أن القضاء لم يبق مقبولاً منه، وهذا يدل على أنه كان متعمدًا للفطر لم يكن ناسيا ولا جاهلاً‏.‏

والمجامع الناسي فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، ويذكر ثلاث روايات عنه‏:‏

إحداها‏:‏ لا قضاء عليه ولا كفارة، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والأكثرين‏.‏

والثانية‏:‏ عليه القضاء بلا كفارة،وهو قول مالك‏.‏

والثالثة‏:‏ عليه الأمران، وهو المشهور عن أحمد‏.‏

والأول أظهر ـ كما قد بسط في موضعه ـ فإنه قد ثبت بدلالة الكتاب والسنة‏:‏ أن من فعل محظورًا مخطئًا أو ناسيا لم يؤاخذه الله بذلك، وحينئذ يكون بمنزلة من لم يفعله، فلا يكون عليه إثم، ومن لا إثم عليه لم يكن عاصيا ولا مرتكبًا لما نهي عنه، وحينئذ فيكون قد فعل ما أمر به ولم يفعل ما نهي عنه، ومثل هذا لا يبطل عبادته، إنما يبطل العبادات إذا لم يفعل ما أمر به أو فعل ما حظر عليه‏.‏

وطرد هذا‏:‏ أن الحج لا يبطل بفعل شيء من المحظورات لا ناسيا ولا مخطئًا لا الجماع ولا غيره، وهو أظهر قولي الشافعي‏.‏

/وأما الكفارة والفدية، فتلك وجبت لأنها بدل المتلف من جنس ما يجب ضمان المتلف بمثله، كما لو أتلفه صبي أو مجنون أو نائم ضمنه بذلك، وجزاء الصيد إذا وجب على الناسي والمخطئ فهو من هذا الباب بمنزلة دية المقتول خطأ، والكفارة الواجبة بقتله خطأ بنص القرآن وإجماع المسلمين‏.‏

وأما سائر المحظورات، فليست من هذا الباب، وتقليم الأظفار وقص الشارب والترفه المنافي للتفث كالطيب واللباس؛ ولهذا كانت فديتها من جنس فدية المحظورات ليست بمنزلة الصيد المضمون بالبدل‏.‏ فأظهر الأقوال في الناسي والمخطئ‏:‏ إذا فعل محظورًا ألا يضمن من ذلك إلا الصيد‏.‏

وللناس فيه أقوال، هذا أحدها، وهو قول أهل الظاهر‏.‏

والثاني‏:‏ يضمن الجميع مع النسيان، كقول أبي حنيفة وإحدي الروايات عن أحمد، واختاره القاضي وأصحابه‏.‏

والثالث‏:‏ يفرق بين ما فيه إتلاف كقتل الصيد والحلق والتقليم وما ليس فيه إتلاف كالطيب واللباس، وهـذا قول الشافعي وأحمد في الرواية الثانيـة، واختارهـا طائفـة مـن أصحابه، وهذا القول أجود من /غيره، لكن إزالة الشعر والظفر ملحق باللباس والطيب لا بقتل الصيد هذا أجود‏.‏

والرابع‏:‏ أن قتل الصيد خطأ لا يضمنه، وهو رواية عن أحمد، فخرجوا عليه الشعر والظفر بطريق الأولى‏.‏

وكذلك طرد هذا‏:‏ أن الصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسيا أو مخطئًا، فلا قضاء عليه وهو قول طائفة من السلف والخلف، ومنهم من يفطر الناسي والمخطئ كمالك، وقال أبو حنيفة‏:‏ هذا هو القياس لكن خالفه لحديث أبي هريرة في الناسي، ومنهم من قال‏:‏ لا يفطر الناسي ويفطر المخطئ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد، فأبو حنيفة جعل الناسي موضع استحسان، وأما أصحاب الشافعي وأحمد فقالوا‏:‏ النسيان لا يفطر؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه، بخلاف الخطأ، فإنه يمكنه ألا يفطر حتي يتيقن غروب الشمس، وأن يسمك إذا شك في طلوع الفجر‏.‏

وهذا التفريق ضعيف، والأمر بالعكس، فإن السنة للصائم أن يعجل الفطر ويؤخر السحور، ومع الغيم المطبق لا يمكن اليقين الذي لا يقبل الشك إلا بعد أن يذهب وقت طويل جدًا يفوت مع المغرب /ويفوت معه تعجيل الفطور، والمصلي مأمور بصلاة المغرب وتعجيلها، فإذا غلب على ظنه غروب الشمس أمر بتأخير المغرب إلى حد اليقين، فربما يؤخرها حتي يغيب الشفق وهو لا يستيقن غروب الشمس، وقد جاء عن إبراهيم النخعي وغيره من السلف ـ وهو مذهب أبي حنيفة ـ‏:‏ أنهم كانوا يستحبون في الغيم تأخير المغرب وتعجيل العشاء وتأخير الظهر وتقديم العصر، وقد نص على ذلك أحمد وغيره، وقد علل ذلك بعض أصحابه بالاحتياط لدخول الوقت، وليس كذلك؛ فإن هذا خلاف الاحتياط في وقت العصر والعشاء، وإنما سن ذلك؛ لأن هاتين الصلاتين يجمع بينهما للعذر، وحال الغيم حال عذر، فأخرت الأولى من صلاتي الجمع، وقدمت الثانية لمصلحتين‏:‏

إحداهما‏:‏ التخفيف عن الناس حتي يصلوها مرة واحدة لأجل خوف المطر كالجمع بينهما مع المطر‏.‏

والثانية‏:‏ أن يتيقن دخول وقت المغرب، وكذلك يجمع بين الظهر والعصر على أظهر القولين، وهو إحدي الروايتين عن أحمد، ويجمع بينهما للوحل الشديد والريح الشديدة الباردة ونحو ذلك في أظهر قولي العلماء، وهو قول مالك وأظهر القولين في مذهب أحمد‏.‏

/الثاني‏:‏ أن الخطأ في تقديم العصر والعشاء أولى من الخطأ في تقديم الظهر والمغرب، فإن فعل هاتين قبل الوقت لا يجوز بحال بخلاف تينك، فإنه يجوز فعلهما في وقت الظهر والمغرب؛ لأن ذلك وقت لهما حال العذر، وحال الاشتباه حال عذر، فكان الجمع بين الصلاتين مع الاشتباه أولى من الصلاة مع الشك‏.‏

وهذا فيه ما ذكره أصحاب المأخذ الأول من الاحتياط، لكنه احتياط مع تيقن الصلاة في الوقت المشترك، ألا تري أن الفجر لم يذكروا فيها هذا الاستحباب ولا في العشاء والعصر، ولو كان لعلم خوف الصلاة قبل الوقت لطرد هذا في الفجر، ثم يطرد في العصر والعشاء‏.‏

وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتبكير بالعصر في يوم الغيم، فقال‏:‏ ‏(‏بَكِّروا بالصلاة في يوم الغيم، فإنه من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله‏)‏

فإن قيل‏:‏ فإذا كان يستحب أن يؤخر المغرب مع الغيم، فكذلك يؤخر الفطور‏.‏ قيل‏:‏ إنما يستحب تأخيرها مع تقديم العشاء بحيث يصليهما قبل مغيب الشفق، فأما تأخيرها إلى أن يخاف مغيب الشفق فلا يستحب، ولا يستحب تأخير الفطور إلى هذه الغاية‏.‏

ولهذا كان الجمع المشروع مع المطر هو جمع التقديم في وقت /المغرب، ولا يستحب أن يؤخر بالناس المغرب إلى مغيب الشفق، بل هذا حرج عظيم على الناس، وإنما شرع الجمع لئلا يحرج المسلمون‏.‏

وأيضًا، فليس التأخير والتقديم المستحب أن يفعلهما مقترنتين؛ بل أن يؤخر الظهر ويقدم العصر، ولو كان بينهما فصل في الزمان‏.‏ وكذلك في المغرب والعشاء بحيث يصلون الواحدة وينتظرون الأخرى لا يحتاجون إلى ذهاب إلى البيوت ثم رجوع، وكذلك جواز الجمع لا يشترط له الموالاة في أصح القولين، كما قد ذكرناه في غير هذا الموضع‏.‏

وأيضًا، فقد ثبت في صحيح البخاري، عن أسماء بنت أبي بكر قالت‏:‏ أفطرنا يومًا من رمضان في غيم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طلعت الشمس‏.‏ وهذا يدل على شيئين‏:‏ على أنه لا يستحب مع الغيم التأخير إلى أن يتيقن الغروب؛ فإنهم لم يفعلوا ذلك ولم يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة مع نبيهم أعلم وأطوع لله ولرسوله ممن جاء بعدهم‏.‏ والثاني‏:‏ لا يجب القضاء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لو أمرهم بالقضاء لشاع ذلك كما نقل فطرهم، فلما لم ينقل ذلك دل على أنه لم يأمرهم به‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد قيل لهشام بن عروة‏:‏ أمروا بالقضاء‏؟‏ قال‏:‏ أو بُد من القضاء‏؟‏

/قيل‏:‏ هشام قال ذلك برأيه، لم يرو ذلك في الحديث، ويدل على أنه لم يكن عنده بذلك علم‏:‏ أن معمرًا روي عنه قال‏:‏ سمعت هشامًا قال‏:‏ لا أدري أقضوا أم لا‏؟‏ ذكر هذا وهذا عنه البخاري، والحديث رواه عن أمه فاطمة بنت المنذر عن أسماء‏.‏

وقد نقل هشام عن أبيه عروة‏:‏ أنهم لم يؤمروا بالقضاء، وعروة أعلم من ابنه، وهذا قول إسحاق بن راهويه ـ وهو قرين أحمد بن حنبل ـ ويوافقه في المذهب‏:‏ أصوله وفروعه، وقولهما كثيرًا ما يجمع بينه‏.‏والكَوْسَج سأل مسائله لأحمد وإسحاق، وكذلك حرب الكرماني سأل مسائله لأحمد وإسحاق، وكذلك غيرهما؛ ولهذا يجمع الترمذي قول أحمد وإسحاق، فإنه روي قولهما من مسائل الكوسج‏.‏

وكذلك أبو زرعة وأبو حاتم وابن قتيبة وغير هؤلاء ـ من أئمة السلف والسنة والحديث، وكانوا يتفقهون على مذهب أحمد وإسحاق ـ يقدمون قولهما على أقوال غيرهما، وأئمة الحـديث كالبخاري ومسلم والترمـذي والنسائي وغـيرهم هم أيضًا ـ مـن أتباعهما وممـن يأخـذ العلم والفقه عنهما، وداود من أصحاب إسحاق‏.‏

/وقد كان أحمد بن حنبل إذا سئل عن إسحاق يقول‏:‏ أنا أُسْأَلُ عن إسحاق‏؟‏ إسحاق يسأل عني‏.‏

والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن نصر المروزي وداود ابن على ونحو هؤلاء كلهم فقهاء الحديث ـ رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

وأيضًا، فإن الله قال في كتابه‏:‏ ‏{‏وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ وهذه الآية مع الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين أنه مأمور بالأكل إلى أن يظهر الفجر، فهو مع الشك في طلوعه مأمور بالأكل كما قد بسط في موضعه‏.‏

 فَصْــل

وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله، ومداواة المأمومة والجائفة، فهـذا مما تنازع فيه أهل العلم، فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بالجميع لا بالكحل، ومنهم من فطر بالجميع لا بالتقطير، ومنهم من لم يفطر بالكحل ولا بالتقطير ويفطر بما سوي ذلك‏.‏

/والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك؛ فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام، ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثًا صحيحًاولا ضعيفًا ولا مسندًا ولا مرسلاً علم أنه لم يذكر شيئًا من ذلك‏.‏ والحديث المروي في الكحل ضعيف رواه أبو داود في السنن ولم يروه غيره ولا هو في مسند أحمد ولا سائر الكتب المعتمدة‏.‏ قال أبو داود‏:‏ حدثنا النفيلي، ثنا علي بن ثابت، حدثني عبد الرحمن بن النعمان، ثنا معبد بن هودة، عن أبيه،عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه أمر بالإثمد المروح عند النوم‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏ليتقه الصائم‏)‏‏.‏ قال أبو داود‏:‏ وقال يحيي بن معين‏:‏ هذا حديث منكر‏.‏ قال المنذري وعبد الرحمن‏:‏ قال يحيي بن معين‏:‏ ضعيف‏.‏ وقال أبو حاتم الرازي‏:‏ هو صدوق، لكن من الذي يعرف أباه وعدالته وحفظه‏؟‏‏!‏

وكذلك حديث معبد قد عورض بحديث ضعيف، وهو ما رواه الترمذي بسنده عن أنس ابن مالك قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي/ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ اشتكيت عيني أفأكتحل وأنا صائم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ ليس بالقوي، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء‏.‏ وفيه أبو عاتكة‏.‏ قال البخاري‏:‏ منكر الحديث‏.‏

والذين قالوا‏:‏إن هذه الأمور تفطر كالحقنة ومداواة المأمومة والجائفة لم يكن معهم حجة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس، وأقوي ما احتجوا به قوله‏:‏ ‏(‏وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا‏)‏‏.‏قالوا‏:‏ فدل ذلك على أن ما وصل إلى الدماغ يفطر الصائم إذا كان بفعله، وعلى القياس كل ما وصل إلى جوفه بفعله من حقنة وغيرها، سواء كان ذلك في موضع الطعام والغذاء أو غيره من حشو جوفه‏.‏

والذين استثنوا التقطير قالوا‏:‏ التقطير لا ينزل إلى جوفه، وإنما يرشح رشحًا، فالداخل إلى إحليله كالداخل إلى فمه وأنفه‏.‏

والذين استثنوا الكحل قالوا‏:‏ العين ليست كالقبل والدبر، ولكن هي تشرب الكحل كما يشرب الجسم الدهن والماء‏.‏

والذين قالوا‏:‏ الكحل يفطر، قالوا‏:‏ إنه ينفذ إلى داخله حتي يتنخمه /الصائم؛ لأن في داخل العين منفذًا إلى داخل الحلق‏.‏

وإذا كان عمدتهم هذه الأقيسة ونحوها لم يجز إفساد الصوم بمثل هذه الأقيسة لوجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن القياس وإن كان حجة إذا اعتبرت شروط صحته، فقد قلنا في الأصول‏:‏ إن الأحكام الشرعية كلها بينتها النصوص ـ أيضًا، وإن دل القياس الصحيح على مثل ما دل عليه النص دلالة خفية، فإذا علمنا بأن الرسول لم يحرم الشيء ولم يوجبه علمنا أنه ليس بحرام ولا واجب، وأن القياس المثبت لوجوبه وتحريمه فاسد، ونحن نعلم أنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على الإفطار بهذه الأشياء التي ذكرها بعض أهل الفقه، فعلمنا أنها ليست مفطرة‏.‏

الثاني‏:‏ أن الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لابد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بيانًا عامًا، ولابد أن تنقلها الأمة، فإذا انتفي هذا علم أن هذا ليس من دينه، وهذا كما يعلم أنه لم يفرض صيام شهر غير رمضان، ولا حج بيت غير البيت الحرام، ولا صلاة مكتوبة غير الخمس، ولم يوجب الغسل في مباشرة المرأة بلا إنزال، ولا أوجب الوضوء من الفزع العظيم، وإن كان في مظنة خروج الخارج، ولا سن /الركعتين بعد الطواف بين الصفا والمروة كما سن الركعتين بعد الطواف بالبيت، وبهذا يعلم أن المني ليس بنجس؛ لأنه لم ينقل عن أحد بإسناد يحتج به أنه أمر المسلمين بغسل أبدانهم وثيابهم من المني مع عموم البلوي بذلك، بل أمر الحائض أن تغسل قميصها من دم الحيض مع قلة الحاجة إلى ذلك، ولم يأمر المسلمين بغسل أبدانهم وثيابهم من المني‏.‏

والحديث الذي يرويه بعض الفقهاء‏:‏ ‏(‏يغسل الثوب من البول والغائط والمني والمذي والدم‏)‏ ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في شيء من كتب الحديث التي يعتمد عليها، ولا رواه أحد من أهل العلم بالحديث بإسناد يحتج به، وإنما روي عن عمار وعائشة من قولهما‏.‏

وغسل عائشة للمني من ثوبه وفركها إياه لا يدل على وجوب ذلك، فإن الثياب تغسل من الوسخ والمخاط والبصاق، والوجوب إنما يكون بأمره، لاسيما ولم يأمر هو سائر المسلمين بغسل ثيابهم من ذلك، ولا نقل أنه أمر عائشة بذلك، بل أقرها على ذلك، فدل على جوازه أو حسنه واستحبابه‏.‏

/وأما الوجوب فلابد له من دليل‏.‏

وبهذه الطرق يعلم ـ أيضًا ـ أنه لم يوجب الوضوء من لمس النساء ولا من النجاسات الخارجة من غير السبيلين، فإنه لم ينقل أحد عنه بإسناد يثبت مثله أنه أمر بذلك مع العلم بأن الناس كانوا لا يزالون يحتجمون ويتقيؤون ويجرحون في الجهاد وغير ذلك، وقد قطع عرق بعض أصحابه ليخرج منه الدم وهو الفِصَادُ، ولم ينقل عنه مسلم‏:‏ أنه أمر أصحابه بالتوضؤ من ذلك‏.‏

وكذلك الناس لا يزال أحدهم يلمس امرأته بشهوة وبغير شهوة، ولم ينقل عنه مسلم‏:‏ أنه أمر الناس بالتوضؤ من ذلك، والقرآن لا يدل على ذلك؛ بل المراد بالملامسة الجماع كما بسط في موضعه، وأمره بالوضوء من مس الذكر إنما هو استحباب إما مطلقًا وإما إذا حرك الشهوة، وكذلك يستحب لمن لمس النساء فتحركت شهوته أن يتوضأ، وكذلك من تفكر فتحركت شهوته فانتشر، وكذلك من مس الأمرد أو غيره فانتشر‏.‏

فالتوضؤ عند تحرك الشهوة من جنس التوضؤ عند الغضب، وهذا مستحب لما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن /الغضب من الشيطان، وإن الشيطان من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ‏)‏‏.‏ وكذلك الشهوة الغالبة هي من الشيطان والنار، والوضوء يطفئها فهو يطفئ حرارة الغضب، والوضوء من هذا مستحب‏.‏ وكذلك أمره بالوضوء مما مسته النار أمر استحباب؛ لأن ما مسته النار يخالط البدن فليتوضأ، فإن النار تطفأ بالماء‏.‏ وليس في النصوص ما يدل على أنه منسوخ؛ بل النصوص تدل على أنه ليس بواجب، واستحباب الوضوء من أعدل الأقوال ـ من قول من يوجبه، وقول من يراه منسوخًا ـ وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره‏.‏

وكذلك بهذه الطريق يعلم أن بول ما يؤكل لحمه وروثه ليس بنجس، فإن هذا مما تعم به البلوي، والقوم كانوا أصحاب إبل وغنم، يقعدون ويصلون في أمكنتها وهي مملوءة من أبعارها، فلو كانت بمنزلة المرَاحيض كانت تكون حشوشًا‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم باجتنابها، وألا يلوثوا أبدانهم وثيابهم بها ولا يصلون فيها‏.‏

فكيف وقد ثبتت الأحاديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون في مرابض الغنم، وأمر بالصلاة في مرابض الغنم، ونهي /عن الصلاة في معاطن الإبل، فعلم أن ذلك ليس لنجاسة الأبعار، بل كما أمر بالتوضؤ من لحوم الإبل، وقال في الغنم‏:‏ ‏(‏إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن الإبل خلقت من جن، وإن على ذروة كل بعير شيطانًا‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏الفَخْرُ والخُيلاءُ في الفدادين أصحاب الإبل، والسكينة في أهل الغنم‏)‏

فلما كانت الإبل فيها من الشيطنة مالا يحبه الله ورسوله أمر بالتوضؤ من لحمها، فإن ذلك يطفئ تلك الشيطنة، ونهي عن الصلاة في أعطانها؛ لأنها مأوي الشياطين، كما نهي عن الصلاة في الحمام؛ لأنها مأوي الشياطين‏.‏

فإن مأوي الأرواح الخبيثة أحق بأن تجتنب الصلاة فيه وفي موضع الأجسام الخبيثة، بل الأرواح الخبيثة تحب الأجسام الخبيثة‏.‏

ولهذا كانت الحَشُوش محتضرة تحضرها الشياطين، والصلاة فيها أولى بالنهي من الصلاة في الحمام ومعاطن الإبل، والصلاة على الأرض النجسة‏.‏ ولم يرد في الحشوش نص خاص؛ لأن الأمر فيها كان أظهر عند المسلمين أن يحتاج إلى بيان؛ ولهذا لم يكن أحد من المسلمين يقعد في الحشوش، ولا يصلي فيها، وكانوا ينتابون البرية لقضاء حوائجهم /قبل أن تتخذ الكُنُف في بيوتهم‏.‏

وإذا سمعوا نهيه عن الصلاة في الحمام أو أعطان الإبل علموا أن النهي عن الصلاة في الحشوش أولى وأحري، مع أنه قد روي الحديث الذي فيه النهي عن الصلاة في المقبرة والمجزرة والمزبلة والحشوش وقارعة الطريق ومعاطن الإبل، وظهر بيت الله الحرام‏.‏

وأصحاب الحديث متنازعون فيه، وأصحاب أحمد فيه على قولين‏:‏ منهم من يري هذه مـن مواضـع النهي، ومنهم مـن يقـول‏:‏ لم أجـد في هذا الحديث، ولم أجد في كلام أحمد في ذلك إذنًا، ولا منعًا، مع أنه قد كره الصلاة في مواضع العذاب، نقله عنه ابنه عبد الله؛ للحديث المسند في ذلك عن على الذي رواه أبو داود، وإنما نص على الحشوش وأعطان الإبل والحمام، وهذه الثلاثة التي ذكرها الخِرَقِي وغيره، والحكم في ذلك عند من يقول به قد يثبته بالقياس على موارد النص، وقد يثبته بالحديث، ومن فرق يحتاج إلى الطعن في الحديث وبيان الفارق، و ـ أيضًا ـ المنع قد يكون منع كراهة، وقد يكون منع تحريم‏.‏

وإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوي لابد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بيانًا عامًا، ولابد أن تنقل الأمة ذلك، فمعلوم /أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوي كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب، فلو كان هذا مما يفطر لبينه النبي صلى الله عليه وسلم كما بين الإفطار بغيره، فلما لم يبين ذلك علم أنه من جنس الطيب والبخور والدهن، والبخور قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل في الدماغ وينعقد أجسامًا، والدهن يشربه البدن ويدخل إلى داخله ويتقوي به الإنسان، وكذلك يتقوي بالطيب قوة جيدة، فلما لم ينه الصائم عن ذلك دل على جواز تطييبه وتبخيره وادهانه، وكذلك اكتحاله‏.‏

وقد كان المسلمون في عهده صلى الله عليه وسلم يجْرَح أحدهم إما في الجهاد وإما في غيره مأمومة وجائفة، فلو كان هذا يفطر لبين لهم ذلك، فلما لم ينه الصائم عن ذلك علم أنه لم يجعله مفطرًا‏.‏

والوجه الثالث‏:‏ إثبات التفطير بالقياس يحتاج إلى أن يكون القياس صحيحًا، وذلك إما قياس علة بإثبات الجامع، وإما بإلغاء الفارق، فإما أن يدل دليل على العلة في الأصل فيعدي بها إلى الفرع، وإما أن يعلم ألا فارق بينهما من الأوصاف المعتبرة في الشرع، وهذا القياس هنا منتفٍ‏.‏

وذلك أنه ليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر الذي جعله الله/ورسوله مفطرًا هو ما كان واصلاً إلى دماغ أو بدن، أو ما كان داخلاً من منفذ، أو واصلاً إلى الجوف‏.‏ ونحو ذلك من المعاني التي يجعلها أصحاب هذه الأقاويل هي مناط الحكم عند الله ورسوله، ويقولون‏:‏ إن الله ورسوله إنما جعلاالطعام والشراب مفطرًا لهذا المعني المشترك من الطعام والشراب، ومما يصل إلى الدماغ والجوف من دواء المأمومة والجائفة، وما يصل إلى الجوف من الكحل ومن الحقنة والتقطير في الإحليل ونحو ذلك‏.‏

وإذا لم يكن على تعليق الله ورسوله للحكم بهذا الوصف دليل كان قول القائل‏:‏ إن الله ورسوله إنما جعلا هذا مفطرًا لهذا قولاً بلا علم، وكان قوله‏:‏ إن الله حرم على الصائم أن يفعل هذا، قولاً بأن هذا حلال وهذا حرام بلا علم، وذلك يتضمن القول على الله بما لا يعلم، وهذا لا يجوز‏.‏

ومن اعتقد من العلماء أن هذا المشترك مناط الحكم، فهو بمنزلة من اعتقد صحة مذهب لم يكن صحيحًا، أو دلالة لفظ على معني لم يرده الرسول، وهذا اجتهاد يثابون عليه، ولا يلزم أن يكون قولاً بحجة شرعية يجب على المسلم اتباعها‏.‏

/والوجه الرابع‏:‏ أن القياس إنما يصح إذا لم يدل كلام الشارع على علة الحكم إذا سَبَرنَاأوصاف الأصل، فلم يكن فيها ما يصلح للعلة إلا الوصف المعين، وحيث أثبتنا علة الأصل بالمناسبة أو الدوران أو الشبه المطرد عند من يقول به، فلابد من السَّبْر، فإذا كان في الأصل وصفان مناسبان لم يجز أن يقول‏:‏ الحكم بهذا دون هذا‏.‏

ومعلوم أن النص والإجماع أثبتا الفطر بالأكل والشرب والجماع والحيض، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهي المتوضئ عن المبالغة في الاستنشاق إذا كان صائمًا،وقياسهم على الاستنشاق أقوي حججهم كما تقدم، وهو قياس ضعيف؛ وذلك لأن من نشق الماء بمنخريه ينزل الماء إلى حلقه وإلى جوفه، فحصل له بذلك ما يحصل للشارب بفمه ويغذي بدنه من ذلك الماء، ويزول العطش ويطبخ الطعام في معدته كما يحصل بشرب الماء، فلو لم يرد النص بذلك لعلم بالعقل أن هذا من جنس الشرب، فإنهما لا يفترقان إلا في دخول الماء من الفم، وذلك غير معتبر، بل دخول الماء إلى الفم وحده لا يفطر، فليس هو مفطرًا ولا جزءًا من المفطر لعدم تأثيره، بل هو طريق إلى الفطر، وليس كذلك الكحل والحقنة ومداواة الجائفة والمأمومة، فإن الكحل لا يغذي البتة ولا يدخل أحد كحلاً إلى جوفه لا من أنفه ولا فمه، /وكذلك الحقنة لا تغذي، بل تستفرغ ما في البدن كما لو شم شيئًا من المسهلات أو فزع فزعًا أوجب استطلاق جوفه وهي لا تصل إلى المعدة‏.‏

والدواء الذي يصل إلى المعدة في مداواة الجائفة والمأمومة لا يشبه ما يصل إليها من غذائه، والله ـ سبحانه ـ قال‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 183‏]‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الصوم جنة‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيقوا مجاريه بالجوع بالصوم‏)‏

فالصائم نهى عن الأكل والشرب؛ لأن ذلك سبب التقوى، فترك الأكل والشرب الذي يولد الدم الكثير الذي يجري فيه الشيطان إنما يتولد من الغذاء لا عن حقنة ولا كحل، ولا ما يقطر في الذكر، ولا ما يداوى به المأمومة والجائفة، وهو متولد عما استنشق من الماء؛ لأن الماء مما يتولد منه الدم، فكان المنع منه من تمام الصوم‏.‏

فإذا كانت هذه المعاني وغيرها موجودة في الأصل الثابت بالنص والإجماع، فدعواهم أن الشارع علق الحكم بما ذكروه من الأوصاف/ معارض بهذه الأوصاف، والمعارضة تبطل كل نوع من الأقيسة إن لم يتبين أن الوصف الذي ادعوه هو العلة دون هذا‏.‏

الوجه الخامس‏:‏ أنه ثبت بالنص والإجماع منع الصائم من الأكل والشرب والجماع، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم‏)‏ ولا ريب أن الدم يتولد من الطعام والشراب، وإذا أكل أو شرب اتسعت مجاري الشياطين؛ ولهذا قال‏:‏ ‏(‏فضيقوا مجاريه بالجوع‏)‏ وبعضهم يذكر هذا اللفظ مرفوعًا؛ ولهذا قال النبي صلىالله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين‏)‏ فإن مجاري الشياطين الذي هو الدم ضاقت، وإذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات التي بها تفتح أبواب الجنة، وإلى ترك المنكرات التي بها تفتح أبواب النار، وصفدت الشياطين، فضعفت قوتهم وعملهم بتصفيدهم، فلم يستطيعوا أن يفعلوا في شهر رمضان ما كانوا يفعلونه في غيره، ولم يقل‏:‏ إنهم قتلوا ولا ماتوا، بل قال‏:‏ ‏[‏صفدت‏]‏ والمصفد من الشياطين قد يؤذى، لكن هذا أقل وأضعف مما يكون في غير رمضان، فهو بحسب كمال الصوم ونقصه، فمن كان صومه كاملاً دفع الشيطان دفعًا لا يدفعه دفع الصوم الناقص، فهذه المناسبة ظاهرة في منع الصائم من الأكل /والشرب، والحكم ثابت على وفقه، وكلام الشارع قد دل على اعتبار هذا الوصف وتأثيره، وهذا المنع منتفٍ في الحقنة والكحل وغير ذلك‏.‏

فإن قيل‏:‏ بل الكحل قد ينزل إلى الجوف ويستحيل دمًا‏.‏

قيل‏:‏ هذا كما قد يقال في البخار الذي يصعد من الأنف إلى الدماغ فيستحيل دمًا، وكالدهن الذي يشربه الجسم، والممنوع منه إنما هو ما يصل إلى المعدة، فيستحيل دمًا ويتوزع على البدن‏.‏

ونجعل هذا وجهًا سادسًا، فنقيس الكحل والحقنة ونحو ذلك على البخور والدهن ونحو ذلك؛ لجامع ما يشتركان فيه من أن ذلك ليس مما يتغذى به البدن ويستحيل في المعدة دمًا، وهذا الوصف هو الذي أوجب ألا تكون هذه الأمور مفطرة، وهذا موجود في محل النزاع، والفرع قد يتجاذبه أصلان فيلحق كلا منهما بما يشبهه من الصفات‏.‏

فإن قيل‏:‏ هذا تطبخه المعدة ويستحيل دمًا ينمي عنه البدن لكنه غذاء ناقص، فهو كما لو أكل سما أو نحوه مما يضره، وهو بمنزلة من /أكل أكلاً كثيرا أورثه تخمة ومرضًا، فكان منعه في الصوم عن هذا أوكد؛ لأنه ممنوع عنه في الإفطار وبقى الصوم أوكد، وهذا كمنعه من الزنا، فإنه إذا منع من الوطء المباح فالمحظور أولى‏.‏

فإن قيل‏:‏ فالجماع مفطر، وهذه العلة منتفية فيه‏.‏

قيل‏:‏ تلك أحكام ثابتة بالنص والإجماع، فلا يحتاج إثباتها إلى القياس؛ بل يجوز أن تكون العلل مختلفة، فيكون تحريم الطعام والشراب والفطر بذلك لحكمة، وتحريم الجماع والفطر به لحكمة، والفطر بالحيض لحكمة، فإن الحيض لا يقال فيه‏:‏ إنه يحرم‏:‏ وهذا لأن المفطرات بالنص والإجماع لما انقسمت إلى أمور اختيارية تحرم على العبد كالأكل والجماع، وإلى أمور لا اختيار له فيها كدم الحيض، كذلك تنقسم عللها‏.‏

فنقول‏:‏ أما الجماع فإنه باعتبار أنه سبب إنزال المني يجري مجرى الاستقاءة والحيض والاحتجام ـ كما سنبينه إن شاء الله تعالى ـ فإنه من نوع الاستفراغ لا الامتلاء كالأكل والشرب، ومن جهة أنه إحدى الشهوتين، فجرى مجرى الأكل والشرب، قد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن الله ـ تعالى ـ ‏(‏قال‏:‏ الصوم لي وأنا أجزي/ به، يدع شهوته وطعامه من أجلي‏)‏ فترك الإنسان ما يشتهيه لله هو عبادة مقصودة يثاب عليها كما يثاب المحرم على ترك ما اعتاده من اللباس والطيب ونحو ذلك من نعيم البدن، والجماع من أعظم نعيم البدن، وسرور النفس وانبساطها، هو يحرك الشهوة والدم والبدن أكثر من الأكل، فإذا كان الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والغذاء يبسط الدم الذي هو مجاريه، فإذا أكل أو شرب انبسطت نفسه إلى الشهوات، وضعفت إرادتها ومحبتها للعبادات، فهذا المعنى في الجماع أبلغ، فإنه يبسط إرادة النفس للشهوات، ويضعف إرادتها عن العبادات أعظم، بل الجماع هو غاية الشهوات، وشهوته أعظم من شهوة الطعام والشراب؛ ولهذا أوجب على المجامع كفارة الظهار، فوجب عليه العتق أو ما يقوم مقامه بالسنة والإجماع؛ لأن هذا أغلظ، وداعيه أقوى، والمفسدة به أشد، فهذا أعظم الحكمتين في تحريم الجماع‏.‏

وأما كونه يضعف البدن كالاستفراغ، فذاك حكمة أخرى، فصار فيهما كالأكل والحيض وهو في ذلك أبلغ منهما، فكان إفساده الصوم أعظم من إفساد الأكل والحيض‏.‏

فنذكر حكمة الحيض وجريان ذلك على وفق القياس، فنقول‏:‏ إن الشرع جاء بالعدل في كل شيء، والإسراف في العبادات من الجور /الذي نهى عنه الشارع وأمر بالاقتصاد في العبادات؛ ولهذا أمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور، ونهى عن الوصال وقال‏:‏ ‏(‏أفضل الصيام وأعدل الصيام صيام داود عليه السلام، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يفر إذا لاقَى‏)‏، فالعدل في العبادات من أكبر مقاصد الشارع؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏87‏]‏، فجعل تحريم الحلال من الاعتداء المخالف للعدل، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏161،160‏]‏، فلما كانوا ظالمين عوقبوا بأن حرمت عليهم الطيبات؛ بخلاف الأمة الوسط العدل، فإنه أحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث‏.‏

وإذا كان كذلك، فالصائم قد نهى عن أخذ ما يقويه ويغذيه من الطعام والشراب، فينهى عن إخراج ما يضعفه ويخرج مادته التي بها يتغذى، وإلا فإذا مكن من هذا ضره وكان متعديًا في عبادته لا عادلاً‏.‏

والخارجات نوعان‏:‏ نوع يخرج لا يقدر على الاحتراز منه أو على وجه لا يضره، فهذا لا يمنع منه كالأخبثين، فإن خروجهما لا يضره، ولا يمكنه الاحتراز منه ـ أيضا، ولو استدعى خروجهما فإن خروجهما لا يضره بل ينفعه، وكذلك إذا ذرعه القيء لا يمكنه الاحتراز منه، وكذلك الاحتلام /في المنام لا يمكنه الاحتراز منه، وأما إذا استقاء فالقيء يخرج ما يتغذى به من الطعام والشراب المستحيل في المعدة، وكذلك الاستمناء مع ما فيه من الشهوة فهو يخرج المني الذي هو مستحيل في المعدة عن الدم، فهو يخرج الدم الذي يتغذى به؛ ولهذا كان خروج المني إذا أفرط فيه يضر الإنسان ويخرج أحمر‏.‏

والدم الذي يخرج بالحيض فيه خروج الدم، والحائض يمكنها أن تصوم في غير أوقات الدم في حال لا يخرج فيها دمها، فكان صومها في تلك الحال صوما معتدلا لا يخرج فيه الدم الذي يقوى البدن الذي هو مادته، وصومها في الحيض يوجب أن يخرج فيه دمها الذي هو مادتها، ويوجب نقصان بدنها وضعفها وخروج صومها عن الاعتدال، فأمرت أن تصوم في غير أوقات الحيض‏.‏

بخلاف المستحاضة؛ فإن الاستحاضة تعم أوقات الزمان، وليس لها وقت تؤمر فيه بالصوم، وكان ذلك لا يمكن الاحتراز منه ـ كذرع القيء، وخروج الدم بالجراح والدمامل والاحتلام ونحو ذلك مما ليس له وقت محدد يمكن الاحتراز منه ـ فلم يجعل هذا منافيا للصوم كدم الحيض‏.‏

/وطرد هذا‏:‏ إخراج الدم بالحجامة والفصاد ونحو ذلك، فإن العلماء متنازعون في الحجامة‏:‏ هل تفطر الصائم أم لا‏؟‏ والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏(‏أفطر الحاجم والمحجوم‏)‏ كثيرة قد بينها الأئمة الحفاظ‏.‏

وقد كره غير واحد من الصحابة الحجامة للصائم، وكان منهم من لا يحتجم إلا بالليل‏.‏ وكان أهل البصرة إذا دخل شهر رمضان أغلقوا حوانيت الحجامين‏.‏ والقول بأن الحجامة تفطر مذهب أكثر فقهاء الحديث ـ كأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وابن خزيمة، وابن المنذر وغيرهم‏.‏

وأهل الحديث الفقهاء فيه العاملون به أخص الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ والذين لم يروا إفطار المحجوم احتجوا بما ثبت في الصحيح‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم، وأحمد وغيره طعنوا في هذه الزيادة، وهي قوله‏:‏ ‏[‏وهو صائم‏]‏، وقالوا‏:‏ الثابت أنه احتجم وهو محرم، قال أحمد‏:‏ قال يحيى بن سعيد‏:‏ قال شعبة‏:‏ لم يسمع الحكم حديث مقسم في الحجامة للصائم، يعنى حديث شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم‏.‏

/قال مهنا‏:‏ سألت أحمد عن حديث حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهـو صائم محرم، فقال‏:‏ ليس بصحيح‏.‏ وقد أنكره يحيى ابن سعيد الأنصارى‏.‏ قال الأثرم‏:‏ سمعت أبا عبد الله رد هذا الحديث فضعفه، وقال‏:‏ كانت كتب الأنصاري ذهبت في أيام المنتصر، فكان بعد يحدث من كتب غلامه، وكان هذا من تلك‏.‏

وقال مهنا‏:‏ سألت أحمد عن حديث قبيصة، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ فقال‏:‏ هو خطأ من قبل قبيصة‏.‏ وسألت يحيى عن قبيصة فقال‏:‏ رجل صدق، والحديث الذي يحدث به عن سفيان عن سعيد خطأ من قبله‏.‏

قال مهنا‏:‏ سألت أحمد عن حديث ابن عباس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم صائم، فقال‏:‏ ليس فيه‏:‏ صائم، إنما هو محرم، ذكره سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس‏:‏ احتجم النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه وهو محرم ـ عن طاوس وعطاء مثله عن ابن عباس، وعن عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله، وهؤلاء أصحاب ابن عباس لا يذكرون‏:‏ صائما‏.‏

/قلت‏:‏ وهذا الذي ذكره الإمام أحمد هو الذي اتفق عليه الشيخان‏:‏ البخاري ومسلم؛ ولهذا أعـرض مسلم عـن الحـديث الذي ذكر حجامة الصائم، ولم يثبت إلا حجامة المحـرم‏.‏ وتأولوا أحـاديث الحجامـة بتأويلات ضعيفة، كقولهم‏:‏ كانا يغتابان، وقولهم‏:‏ أفطر لسبب آخر‏.‏ وأجود ما قيل‏:‏ ما ذكره الشافعي وغيره أن هذا منسوخ، فإن هذا القول كان في رمضان، واحتجامه وهو محرم كان بعد ذلك؛ لأن الإحرام بعد رمضان، وهذا ـ أيضا ـ ضعيف، بل هو صلوات الله عليه أحرم سنة ست عام الحديبية بعمرة في ذي القعـدة، وأحـرم مـن العام القابل بعمرة القضية في ذي القعدة، وأحرم من العام الثالث سنة الفتح من الجعرانة في ذي القعدة بعمرة، وأحرم سنة عشر بحجة الوداع في ذى القعدة، فاحتجامه صلى الله عليه وسلم وهو محرم صائم لم يبين في أى الإحرامات كان‏.‏

والذي يقوى أن إحرامه الذي احتجم فيه كان قبل فتح مكة، قوله‏:‏ ‏(‏أفطر الحاجم والمحجوم ‏)‏، فإنه كان عام الفتح بلا ريب هكذا في أجود الأحاديث‏.‏ وروى أحمد بإسناده، عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجل يحتجم في رمضان قال‏:‏ ‏(‏أُفطر الحاجم والمحجوم‏)‏‏.‏

/وقال أحمد‏:‏ أنبأنا إسماعيل، عن خالد الحذاء، عن أبى قلابة،عن الأشعث، عن شداد ابن أوس أنه مر مع النبي صلى الله عليه وسلم زمن الفتح على رجل محتجم بالبقيع لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان، فقال‏:‏ ‏(‏أفطر الحاجم والمحجوم‏)‏ وقال الترمذى‏:‏ سألت البخارى، فقال‏:‏ ليس في هذا الباب أصح من حديث شداد بن أوس وحديث ثوبان، فقلت‏:‏ وما فيه من الاضطراب‏؟‏ فقال‏:‏ كلاهما عندى صحيح؛ لأن يحيى بن سعيد روى عن أبى قلابة، عن أبى أسماء، عن ثوبان، عن أبى الأشعث، عن شداد الحديثين جميعا‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الذي ذكره البخارى من أظهر الأدلة على صحة كلا الحديثين اللذين رواهما أبو قلابة ـ إلى أن قال ـ ومما يقوى أن الناسخ هو الفطر بالحجامة أن ذلك رواه عنه خواص أصحابه الذين كانوا يباشرونه حضرا وسفرًا، ويطلعون على باطن أمره مثل بلال وعائشة، ومثل أسامة وثوبان مولياه، ورواه عنه الأنصار الذين هم بطانته، مثل رافع بن خديج وشداد ابن أوس، وفي مسند أحمد عن رافع بن خديج، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أفطر الحاجم والمحجوم‏)‏‏.‏ قال أحمد‏:‏ أصح شيء في هذا الباب حديث رافع، وذكر أحاديث‏:‏ ‏(‏أفطر الحاجم والمحجوم‏)‏ إلى أن قال‏:‏ ثم اختلفوا على أقوال‏:‏

/أحدها‏:‏ يفطر المحجوم دون الحاجم ذكره الخرقي؛ لكن المنصوص عن أحمد وجمهور أصحابه الإفطار بالأمرين، والنص دال على ذلك فلا سبيل إلى تركه‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يفطر المحجوم الذي يحتجم ويخرج منه الدم، ولا يفطر بالافتصاد ونحوه؛ لأنه لا يسمى احتجاما، وهذا قول القاضي وأصحابه، فالتشريط في الآذان هل هو داخل في مسمى الحجامة‏؟‏ تنازع فيه المتأخرون‏.‏ فبعضهم يقول‏:‏ التشريط كالحجامة، كما يقوله شيخنا أبو محمد المقدسي، وعليه يدل كلام العلمـاء قاطبـة، فليس منهـم من خص التشريط بذكر، ولو كان عندهم لا يدخل في الحجامـة لذكروه، كما ذكروا الفصاد‏.‏ فعلم أن التشريط عندهم من نوع الحجامة، وقال شيخنا أبو محمد‏:‏ هذا هو الصواب، إلى أن قال‏:‏

والرابع‏:‏ وهو الصواب واختاره أبو المظفر بن هبيرة ـ الوزير العالم العادل ـ وغيره أنه يفطر بالحجامة والفصاد ونحوهما؛ وذلك لأن المعنى الموجود في الحجامة موجود في الفصاد شرعا وطبعا، وحيث حض النبي صلى الله عليه وسلم على الحجامة وأمر بها، فهو حض على ما في معناها من الفصاد وغيره؛ لكن الأرض الحارة تجتذب الحرارة فيها دم البدن، /فيصعد إلى سطح الجلد فيخرج بالحجامة، والأرض الباردة يغور الدم فيها إلى العروق هربًا من البرد، فإن شبه الشيء منجذب إليه، كما تسخن الأجواف في الشتاء وتبرد في الصيف، فأهل البلاد الباردة لهم الفصاد وقطع العروق، كما للبلاد الحارة الحجامة، لا فرق بينهما في شرع ولا عقل‏.‏

وقد بينا أن الفطر بالحجامة على وفق الأصول والقياس، وأنه من جنس الفطر بدم الحيض والاستقاءة وبالاستمناء، وإذا كان كذلك، فبأي وجه أراد إخراج الدم أفطر، كما أنه بأي وجه أخرج القيء أفطر، سواء جذب القيء بإدخال يده، أو بشم مايقيئه، أو وضع يده تحت بطنه واستخرج القيء، فتلك طرق لإخراج القيء، وهذه طرق لإخراج الدم؛ ولهذا كان خروج الدم بهذا وهذا سواء في باب الطهارة، فتبين بذلك كمال الشرع واعتداله وتناسبه، وأن ما ورد من النصوص ومعانيها فإن بعضه يصدق بعضا ويوافقه ‏{‏وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏

وأما الحاجم، فإنه يجتذب الهواء الذي في القارورة بامتصاصه، والهواء يجتذب ما فيها من الدم، فربما صعد مع الهواء شيء من الدم ودخل في حلقه وهو لا يشعر،والحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم /بالمظنة، كما أن النائم الذي تخرج منه الريح ولا يدري يؤمر بالوضوء، فكذلك الحاجم يَدْخُلُ شيءٌ من الدم مع ريقه إلى بطنه وهو لا يدري‏.‏

والدم من أعظم المفطرات، فإنه حرام في نفسه لما فيه من طغيان الشهوة، والخروج عن العدل، والصائم أمر بحسم مادته، فالدم يزيد الدم فهو من جنس المحظور، فيفطر الحاجم لهذا، كما ينتقض وضوء النائم، وإن لم يستيقن خروج الريح منه؛ لأنه يخرج ولا يدري، وكذلك الحاجم قد يدخل الدم في حلقه وهو ولا يدري‏.‏

وأما الشارط فليس بحاجم، وهذا المعنى منتف فيه، فلا يفطر الشارط، وكذلك لو قدر حاجم لا يمص القارورة بل يمتص غيرها أو يأخذ الدم بطريق أخرى لم يفطر‏.‏

والنبي صلى الله عليه وسلم كلامه خرج على الحاجم المعروف المعتاد‏.‏ وإذا كان اللفظ عامًا وإن كان قصده شخصًا بعينه، فيشترك في الحكم سائر النوع؛ للعادة الشرعية من أن ما ثبت في حق الواحد من الأمة ثبت في حق الجميع، فهذا أبلغ، فلا يثبت بلفظه ما يظهر لفظا ومعنى أنه لم يدخل فيه مع بعده عن الشرع والعقل، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا‏.‏